آخر خبر

قلق العودة

قلق العودة

 

بقلم / عبد القادر دقاش

دعيني أعد على مسامعك الحكاية..أدري أني قلتها من قبل عشرومية مرة ..بذات الحضور..وأنت تضحكين حتى تلتمع الدموع في عينيك.. تضعين كفيك على وجهك..وتضغطين بأسنانك على شفتيك..وكأنك تحاولين إيقاف الضحكة التي تحول وجهك كله إلى حديقة باذخة ..أتذكرين: تجاني الماحي، يلا يا نفسيات..النازل..تضحكين قائلة، أنا لو كنت في محلك..أنزل مسجد فيصل. أقول، صدِّقي نويت لكني قلت للكمساري حدي تجاني الماحي. لكن تستاهل: تقول للكمساري ما عندي قروش، وتركب جنبك بت تقول لي الكمساري دي معاي (باااااالغت) وتستمر عيناك في الالتماع..وأنت تضحكين…

لكني الآن اسمع نشيجك عاليا عنيفا..يستصرخ مشاعري، ويفجر مكامن حزني الخابية، ويدفع براكين دموعي الراكدة..ها أنا ذا انتحب وأبكي بقدر الحب الذي هو أساس الوجود وعلة الجذب وبقدر الحزن الخفي الذي لا يعرف ولا يكشف وبقدر الأسى وفيض الذكريات. يخرج منك صوت متكسرا: أنا راجعه بيتنا في أم درمان..الحرب حدها وين.. أب طربوش يقول، أنا ما طالع من البلد دي أموت يدفنوني في القبة. أب طربوش أصبح جزءا من تفاصيل القبة وزقاق جامع بابكر بدري..وأنت كل تفاصيل فريق الرباطاب والدروب والأزقة والمقاهي والبيت الذي ألفناه وأودعناه أسرار ولعنا بالحياة.. بت كشة ومالك بدري وعثمان الطيب وعبد الرحمن والريح البشير..وناس الجزلي والطيار..وتحية وراشد ورماح..تسألي وأنت تنظرين نحوي ويا لك من ماكرة صغيرة وشريرة: حبوبة عايزا يقيسوا ليك الضغط ؟ (نتذرع) حتى تأتي صفاء حاملة السماعة والميزان..وصفاء لم تتخرج بعد من كلية الطب..كانت شاطرة، جميلة..هادئة.. وسمحة في كل شيء..ذهبنا معها إلى كلية الطب أكثر من مرة في ذلك الزمان..لنقرأ أشعار الصبا المتناثرة في كافتيريا الكلية، مكتوبة بخطوط جميلة و محاطة برسومات جذابة، ورود وقلوب بكل الألوان.. ورائحة الغراء وثنر أقلام الشين تفوح من الصحف الورقية ..صحف الشيوعيين والإسلاميين متقابلة ومتصادمة ..حضرنا ركن نقاش ل(حاتم المهدي) كان أسمر،طويلا، نحيلا، وسيما و بليغا.. ومحايدا .. حمنا حول الكلية دخلنا قاعة البغدادي وخرجنا إلى كلية طب الأسنان وعدنا إلى كلية الصيدلة ثم خرجنا من البوابة الغربية عائدين إلى المحطة الوسطى..كل الطرق تؤدي إلى البوستة.. الموردة البلدية.. الأربعين..الشعبي..ليبيا…وجهتنا البوستة ..فريق الرباطاب..من جهة المحكمة ندخل بفريق اليهود هكذا كانت تقول عنه (حبوبة) ومن تجاني الماحي نمر بفريق المسيحيين ..كل هؤلاء نعرفهم (مركز) و(أبو اللول)..ونعرف قصص فريق الكتياب كثيرون منهم أحبوا قبطيات دفعهن الحب للإسلام ..وأبو اللول أحب (منيرة) ودفعه حبها للإسلام..والإسلام دين المحبة والما عنده محبة ما عنده الحبة .. تطل صفية من البلكونة ..بيتهم العمارة الوحيدة العالية في فريق الرباطاب..بيتنا قديم..لكنه جميل..كل البيوت حوله قديمة لكنها جميلة..معظمها بني في زمن الخليفة..وجميعها يشترك في رائحة أم درمان وحب أم درمان المعطون في طينها وتربتها..

قال العباسي، في مدينة خاملة الذكر: لو استطعت لأهديت الخلود لها..إن كان شيء إلى الدنيا لإخلاد. لم ير العباسي أم درمان .. مع أنه ولد في ضواحيها وسكن في بعض حواريها….لكنه لم يرها ..فلو رآها لكتب فيها ما لم يكتب في بادية الكبابيش..وكثيرون ممن سكنوا أم درمان ..لم يروها ما داموا عابرين..الرؤية أمر آخر يتعدى العين المكونة من بؤبؤ وقرنية وشبكية وعصب بصري..إلى محتوى القلب وشغافه بالأساس..هل يمكن لنا أن نحب المدن بهذه الطريقة التي لا تخلو من قلق وتوتر..تدهشنا وتغوينا وتوحشنا…البنا هو الشاعر المدهش لأنه خلد لحظات أم درمان التي لا تنسى في شعره: امتي ارجع لامدر واعودا / واشوف نعيم دنيتي وسعودا/ امتي تلمع بروق رعودا/ حظوظي تنجز لي وعودا/ روحي ضاعت في النار قعودا/ لي هون يا ربي عودة/ أشوف حبيبتي وانظر خدودا.

وددنا لو يبقى كل شيء كما كان عليه ..لكن..البيوت..كل البيوت نهبت..وكل الذكريات محيت..وكل الجدران والملامح جرحت..كل الفرح والضحك والبراءة أحالته الحرب اللعينة إلى جحيم.

شاركها على
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.