آخر خبر

ما الوطن وما الوطنية

ما الوطن وما الوطنية ؟

بقلم / عبد القادر دقاش

ما يزال المجتمع السوداني يعاني من عسر حقيقي في الاندماج والانصهار الوطني الذي يعيد صوغ تكوينه على أساس فئوي وسياسي حديث يتعالى أو يتقاطع مع التكوينات العصبية التي تشد الناس إلى ولاءات صغرى و(ضيقة) قبليّة ومناطقية على حساب الولاء للوطن الكبير..وسوف يظل كذلك ما لم تتشكل عصبية واسعة تكون على أساس المواطنة (المواطنية) وليس على أساس القومية، تتجاوز العصبيات أو الجماعات التي تقوم أحيانا بحكم الغلبة والاستئثار والاحتكارعلى أعادة تعريف وتحديد مقومات الوطن والوطنية وفق معايير ممعنة في الذاتية لأنها تحول ما تعتقده أو تتصوره إلى حقيقة يرونها أصلح وأكمل وأشمل وبالتالي يجب تطبيقها على الجميع مثل حالة القومية.

مواطنية أم قومية

وهناك فرق واضح بين المواطنة (المواطنية) والقومية، فالمواطنة تعني العيش في دولة الحق والقانون على أساس المساواة بين أمم متنافرون إثنيا وقبليا لكن يجمعهم مجال جغرافي محدد عليهم أن يتعايشوا فيه ويتشاركونه باعتبارهم أمة موحدة يجمعهم مشروع وطني مشترك ومتوافق عليه وتقوم على أساسه السلطة والدولة وفق قواعد تمنع الاعتراض والمنازعة.

والقومية تعني أن أعود إلى ثقافتي أن أصير أنا نفسي أن اكتشف شخصيتي وتكون على أساس تاريخي يربط كل فرد من أفراد المجتمع بعضهم بعضا من خلال التزامات ثقافية واجتماعية راسخة ومستقرة لا تتغير ولا تنهار بسهولة..كما أن فكرة القومية لا تساعد على تكوين هوية ثابته، بالرغم من محاولة البعض خلع القومية على كل ما هو مشترك بين السودانيين أجمعين، وقد نشأ خلاف في التلفزيون (القومي) بين مديره (المرحوم) الطيب مصطفى وبعض المثقفين الجنوبيين آنذاك (قبيل الانفصال) عندما فرض الطيب مصطفى على المذيعين ارتداء الجلابية والعمة والمذيعات بارتداء الثوب الأبيض باعتبارهما الأزياء القومية لأهل السودان.

وقد أثار المثقف الجنوبي فاروق جات كوث وقتها جدلا واسعا حول الزي القومي وعمن يعبر هذا الزي الموجود في التلفزيون هل يعبر عن أهل الشرق أم الغرب أم الجنوب أم الوسط. لكن سرعان ما ألغى أمين حسن عمر هذه المسألة بعد أن خلف الطيب مصطفى في إدارة التلفزيون.

ورأى أمين أنه ليس هناك زيا قوميا في السودان واحدا حتى يلزم أهل التلفزيون الذي يراد له أن يعبر عن كل السودانيين.

ولم يجانب أمين الصواب لأن القومية المأخذوة من (قوم) حسب تعريفاتها، لا تفي بما يريده أهل التلفزيون أو النخب الحاكمة..فهي تعني حسب تعبير القرآن الرجال دون النساء (لا يسخر قوم من قوم…ولانساء من نساء)،

واللسان العربي القديم كما جاء في قول زهير: وما أدري، وسوف إخال أدري ..أقوم آل حصن أم نساء.

ولا شك أن هناك فهم ضيق لمثل هذا المدلولات التي تؤرق بال الكثيرين دون أن يعوا أن هذا المجال الجغرافي الواسع الذي يعرف بالسودان يجمع أقواما كثيرين لديهم ثقافات ولغات وموروثات مختلفة ومتباينة لا تخضع لتعريف واحد، لكنها يمكن أن تمزج في كيان وطني سياسي يرسي فكرة المواطنة ويرسخ في النفوس الولاء للوطن وليس للعشيرة أو القبيلة أو العصبية بحيث يكون الوطن هو الأكثر رسوخا.

الدولة الهشة والمجتمع الهش

والازمات السياسية الكبيرة التي مرت بها البلاد أبانت إلى مدى أن الانتماءات الضيقة والولاء لها أهم بكثير من الكيان الوطني الجامع خاصة بعد أن استخدمت السلطة الحاكمة الضغط على الشركاء بعض قبائل الشرق لإغلاق طريق بورتسودان الخرطوم ومثل هذا الاستخدام يبين مدى هشاشة الدولة لأن نهوض القبيلة أو العصبيات في وجه الدولة يمكن أن ينهض أيضا في وجه الإصلاحات التي تراها الدولة مناسبة.

ومؤخرا بعد نشوب الأزمة السياسية والصراع الأخير والذي أدى إلى حرب طاحنة ظهرت وبشكل أوضح الانقسامات الأفقية والعمودية في الشعب السوداني بين الوطني وغير الوطني (الخائن) وبين الذي يحب الوطن ويعرف الوطنية وبين (الأرزقي العميل) الذي لا يعرف قيمة الوطن أو الوطنية، ولا شك أن الانقسام السياسي أو أزمة المجال السياسي يتأثر بها المجال الاجتماعي والثقافي ويتغذان من تناقضاتها التي تعبر عن نفسها في صور من العنف اللفظي قد يقود بدوره إلى عنف أهلي ينذر بالانفجار الكلي، ويظهر ذلك جليا من خلال الاتهام والاتهام المضاد في وسائط التواصل الاجتماعي وإن كانت كانت غالبية وسائط الاتصال نادراً ما تهتم بتعليم، أو إذكاء الحس النقدي، والتحفيز على المشاركة، وما تفعله لا يعدو أن يكون أطلاقا للمناقشات العمومية التي لا تخلو من شتم وسباب، مما يعزز لدى الجمهور ( أو لدى المواطنين) حالات من التقبّل السلبي، والعجز.

لذلك على النخب المثقفة والحاكمة اتباع السياسة الرشيدة التي تبحث عن الأسباب الجذرية التي تقود إلى الصراع وتسعى إلى معالجتها لأن التغاضي عن مثل هذا المشكلات هو الذي يعمق الهوة بين هذه الأمم ذات الثقافات والهويات والإثنيات المتعددة لأن محاولة تقليص الفوراق بين المواطنيين لن يرسخ فكرة المواطنة في العقل الجمعي، فلا بد من الاعتراف بالتنوع والتعدد كحقيقة ثابتة وباقية وتوفير الحريات الكاملة للتعبير عن هذا التعدد والتنوع في كل مجالات الحياة.

لأن منعها أو كبتها أو محاولة تجاهلها سيؤدي حتما للانفجار.


عوده

الضغط هنا للانضمام لمجموعات (سوون نيوز ) عبر الواتساب 

شاركها على
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.