آخر خبر

قراءة في رواية ابن شمس..رانيا المأمون

قراءة في رواية ابن شمس..رانيا المأمون

 

عبد القادر دقاش

تلتقط (رانيا المأمون) بعدسة مصور شديد البراعة عباراتها العذبة والسهلة من الأشياء التي حولها بكل تلقائيتها وعفويتها وحضورها: حديقة وقيع الله، المستشفى، السوق الصغير، سينما أمير، القسم الأول ، أم سويقو ، العشير، الجامع الكبير، ميدان الملك، كعكعاتي، شارع البحر، الشماسة والمتسولين، المارة والمنتظرين في المواقف العامة…وتصيغ كل ذلك صياغة مكتملة ملموسة ومرئية في كل أجزائها دون أن تقفل العلاقات الزمانية والمكانية.
باب التيه:
في هذا الفصل تصور لنا حياة أكرم (التائه) صورا يمكن مشاهدتها من خلال الجمل المصاغة ببساطة الكلمة وعمق المعنى:” يتغطى من رأسه حتى قدميه، وينام دائما على ظهره، وبعد استيقاظه مباشرة كل يوم، ينقلب على جنبه الأيمن ويحاول النوم مجددا لدقائق، ثم ينقلب على جنبه الأيسر ويحاول العودة للنوم مرة ثانية مدة عشر دقائق إضافية، وعندما يفشل يكور شفتيه ويقول: أففففف! ثم ينزع عنه الغطاء بضيق وينزل قدميه باحثا بهما عن حذائه دون أن ينظر إلى الأسفل، أثناء ذلك تبحث يده اليسرى تحت المخدة عن كيس السعوط”.
حالة أكرم حالة إنسانية ..والزوايا التي تلتقط منها الكاتبة صورها ترتفع بنا من الواقع إلى مناطق الاحساس والمشاعر الكامنة التي تطلق الخيال الجامع والحبيس ليشاهد، فكأننا نرى الوحدة التي يواجهها أكرم بأم أعيننا وهي تقف أمامه وتتحداه، وهو يقف أمامها مقهورا ومهزوما لا يقوى على فعل شيء ولا يقدر على صنع حيلة:
“تنتصب الوحدة أمامك تتحداك بصلف وغرور، لا تستطيع إلا أن تواجهها لا تستطيع إلا أن تهزم أمامها، لا مفر من تجاهلها، لا مفر من التوهم بأنها غير موجودة، تذكرك بذاتها في كل ثانية تتقاسم معك كل لحظة تعيشها، كل ابتسامة تسرقها من حبور الوقت، كل طيف غير محتملا بالأماني القادمات.

لا تترك لك خيارا سوى التعايش معها، قبولها أو رفضها هو حقك الذي لا تمارسه معها مطلقا، بأي سلاح تحاربها وبأي منطق تتحاور معها؟ وأنى لك أن تفعل وأنت تشعر بأنك جرء، بأنك شطر، بأن اكتمالك لم يتحقق بعد؟
كيف لك أن تجتاز حصارها المحكم وأنت تشعر بالنقص والعجز وقلة الحيلة؟ مبتورة أطرافك، مقطوع رأسك، مثقوب قلبك يتسرب منه الدخان، مشروخة روحك تغالب السهم المنغرس في طينها. تعيش برئة واحدة، كلية واحدة، عين واحدة، تعيش بواحد من كل اثنين فيك، فكيف يكون الاكتمال؟”.
لم تكن “الوحدة” وحدها هي العائق، فالإنسان يمكن أن يتسلى في وحدته بالحلم، بالأمل، بالخيال..لكن ماذا لو اجتمعت على الإنسان كل هذه الأشياء..هذا ما عبرت عنه (المأمون) في كلمات هي غاية في العمق والمتعة:
“الأحلام تزدهر بقدر مساحات الفرح في دواخلنا، تبسط أجنحتها وتظل تتنامى وتكبر وتعلو، أو تخبو ثم تذبل وتموت عندما تنبت في قلب منطفىء. لقد نسي كرم حلمه أو نسيه الحلم كما يردد”.
في ابن الشمس كل الشخصيات لها حضورها (وطغيانها) الذي لم تحل الكاتبة بيننا وبينهم ولم تمنع رؤيتنا أو مراقبتنا لسلوكهم ومستويات تفكيرهم وحالاتهم النفسية، ففي وصف سيارة المعلم وحالة المعلم و(أنا) المعلم المتضخمة نشاهد الموقف الساخر ونضحك من حالة السيارة ال(سيهان) العتيقة التي تفتح بالترابيس من الداخل، لكن المعلم صاحب المقهى (العتيق) يشعر بالفخر عندما يتداعى صبيان المقهى لفتح الباب (الذي يفتح أساسا بالترباس من الداخل) فالمعلم يمثل والصبيان يمثلون وكل يرضى من صاحبه بالدور الذي يقوم به..وهذا مشهد من مشاهد مسرح الحياة اليومي التي صورتها الكاتبة وأفرغتها في إطار الرواية وحولتها إلى تجربة نفسية إنسانية عميقة.
باب الحب:
“للحب سحره الخاص في قدرته على إخضاع حياة البشر لتحولات مفصلية، هذا شيء عادي ومعروف لكن ما هو غير أن يسري هذا الحب على كرم…”
كلمات في غاية العمق،غاية الدقة، غاية الوضوح..تجيء على لسان كرم: “من الصعب أن أنظر إلى سامية تماما، هي شمسي وعندما أنظر إليها تغشى عيني أشعتها، هل يمكن النظر تماما في عين الشمس؟”
حتى السرد يأخذ تعبيرا عن حنين وعاطفة وحب..لا وصفا فحسب: “كانت طويلة، أطول منه، ممتلئة القوام عيناها لا قبل له بهما، تصرعانه وتقلبان دورته الدموية، يحتاج وقتا ليجمع خلاياه خلية خلية ويعيد صفها في مواضعها.
كانت مرحة وممتلئة بالحياة، عندما تأتي لزيارتهم تدخل البهجة قبلها البيت وتظل وقتا بعدها، يغتبط البيت تتراقص حيطانه، تقفز فرحا نوافذه تصفق أبوابه تتمايل الشجرة يطفو كل البيت في البهجة تضحك أمه ويضحك قلبه وتضحك أواني المطبخ حتى كلبهم يأتي إليها يهز ذيله يرفع قائميتيه عاليا ويرقص قبالتها ينسى مطاردته القطة وينسى الفأر الذي يتربص به بل ينسى كلبة الجيران ويجثو عندها، عند سامية”.
والحب لا يقتصر على العلاقة القائمة بين رجل وامرأة، بل يأتي الحب هنا بمعناها الإنساني الواسع الكبير، فنجد حب جمال لأبراهوامة وهو ينفذه من حملة (الكوامر) ومقاسمته له اللقمة بحب ونفس راضية.
باب الوهم:
ثمة تشابه بين الطريق إلى المدن المستحيلة ل(أبكر آدم إسماعيل)، وابن الشمس ل(رانيا المأمون) فالروايتان تتحدثان عن الشماسه والروايتان تنشأ فيهما قصة حب بين شماسي (مشرد، مقطوع) وبت ناس (بت أصول وحسب ونسب)..وهذا النوع من الحب ممنوع ومحرم ومستبعد حتى في القصص. فحب جمال (الشماسي) ل(ناهد) بنت التاجر في (ابن الشمس) يماثل حب جومو المتشرد ل(نون) الذي أحب ابنة الناظر المنحدر من جهة غير جهة جومو..يقول جمال: “تجاوزت تلك الخطوط المرسومة بصلابة بيني وبين ناهد”..وبالرغم من الحب العاصف الجميل النبيل إلا أن عقبات كثيرة ورياح عاتية تواجهه وتسحقه فالحياة لا تأتي كما نشتهي، وليست كل الأمنيات ممكنة، لأن الأنظمة الاجتماعية لا تقدم حلولا مرضية. وكما جاء في الطريق إلى المدن المستحيلة، غرق سفينة ابنة الناظر القادمة من القاهرة في نهر النيل. مات جمال ولم يلتق ب(ناهد) التي لم تأت بدورها إلى المحكمة لإكمال عقد القِران المنشود، ليكون ذلك هو الحل الأمثل والأوفق والصحيح للعقدة العصية والنزاع الاخلاقي الذي يمكن أن ينشأ في حال تم الزواج بين الاثنين.

شاركها على
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.